بوابة اليمن -
تحول عدد من أهم المدن الأثرية والعواصم التاريخية في اليمن الى مناطق مغلقة تسرح وتمرح فيها عصابات التهريب المنضوية في شبكات منظمة وغير منظمة بعدما منعت البعثات العلمية الأجنبية والمحلية من دخولها لإقامة حفرياتها العلمية. وتناشد هذه البعثات ومنظمة اليونسكو الحكومة اليمنية لإيقاف عمليات التخريب والتدمير المنظمة والعشوائية التي يتعرض لها، منذ سنوات، عدد من أهم المدن الأثرية والعواصم التاريخية لحضارات اليمن القديم على أيدي عصابات تهريب الآثار. وتبذل البعثات الأثرية الفرنسية، الإيطالية، الألمانية، الأميركية والروسية جهوداً حثيثة للفت عناية حكومة البلاد الى ما يجري في محافظات شمالية وجنوبية تضم بعض أهم المدن التاريخية الضاربة حتى أواخر الألف الثاني وبدايات الأول قبل الميلاد. وشهدت السنوات الخمس الأخيرة تزايداً كبيراً في عمليات التخريب والإتجار وتهريب الآثار والمخطوطات اليمنية التي تعود الى حقبة ما قبل الإسلام وبعده. ووفقاً لباحث بلجيكي مهتم بحضارات اليمن القديم، فإن السنوات الخمس الأخيرة هي الأسوأ على الإطلاق في ما يخص عمليات تخريب وتهريب الآثار والمخطوطات بفعل تحول التجارة في هذا المجال الى "مهنة مربحة". ويقول الباحث البلجيكي (من أصل سوري) منير عربش إن "الآثار اليمنية تباع في السوق المحلية كما يباع القات"، وإن "اليمن هو المصدِّر الأول للآثار المهرّبة في العالم".
ليس عربش أول من يضع اليمن في صدارة البلدان (المصدِّرة) للآثار. قبل 15 عاماً، قال المؤرخ الفرنسي كريستيان روبان ما مفاده إن اليمن يستطيع أن يفتخر بكونه من أوائل البلدان المصدِّرة للقطع الأثرية في العالم. ولا يزال عربش يتذكر تهكم المؤرخ الفرنسي المهتم بحضارات اليمن القديم خلال اجتماع لمنظمة اليونسكو بباريس. كان ذلك في مطلع تسعينيات القرن الماضي حين لم تكن تجارة وتهريب الآثار قد تحولت الى مهنة منظمة تديرها شبكة تهريب كبيرة من الأجانب واليمنيين.
الدولة والقبائل بدأت تجارة الآثار في اليمن منذ نحو عقدين وتكثفت في العقد الأخير. وفي السنوات الخمس الأخيرة، وصلت عمليات التخريب والإتجار والتهريب الى حد غير مسبوق. "في البداية (في مطلع التسعينيات)، كان التخريب يطال الآثار البارزة على سطح الأرض فقط، حيث كان أهالي المناطق الأثرية يبحثون عن الحلي والذهب قريباً من سطح الأرض وغالباً يستخدمون الصخور والأعمدة الأثرية المغطاة بالنقوش والرسوم القديمة في بناء منازلهم"، يقول عربش قبل أن يضيف: " أما الآن فقد انتقلوا الى عمليات الحفر المنظمة والعشوائية بعد أن فتحت شبكات تهريب الآثار عيونهم على واحدة من أكثر عمليات الإتجار إدرارا للربح. لقد تحول الأمر الى تجارة منظمة".
هناك لازمة تكاد لا تغيب عن أغلب التقاريرالصحفية الدولية والمحلية المتعلقة باليمن، مضمونها أن سلطة "الدولة اليمنية" لا تصل الى معظم مناطق القبائل في شمال البلاد. وعلى رأس هذه المناطق الشهيرة بانحسار سلطة "الدولة"، اثنتان من أهم المحافظات التاريخية في اليمن: مأرب الغنية بالآثار السبئية والنفط (173 كلم شمال شرق العاصمة صنعاء) ومحافظة الجوف (130 كلم شمال شرق صنعاء). والأخيرة تلتقي مع محافظة حضرموت الجنوبية الشرقية، كبرى المحافظات اليمنية من حيث المساحة وأغناها في الثروة النفطية، وفي كونها تضم أقدم مدن شبه جزيرة العرب. وفي الجوف، حيث النفط و"الدولة" غائبان، يحضر عدد من أهم المدن الأثرية جنباً الى جنب مع عصابات تهريب الآثار.
عربش، الذي يعمل على حضارات اليمن القديم منذ 20 عاماً وأصدر عددا من الكتب في هذا المجال، يتحدث عن وجود شبكة تهريب كبيرة في اليمن تستخدم بعض أهالي قبائل "الجوف" المسلحة للقيام بحفريات أثرية لصالحها على نطاق واسع. ويقول إن عمليات الحفر هذه "أصبحت تتم عبر صفقات مقاولات بين شبكات تهريب كبيرة وبعض الأهالي". يضيف": أنا أتكلم معك الآن وهناك من يقوم بالحفريات ويستهتر بتاريخ البلد بمعرفة الجميع".
عالم الآثار المتخفّي الى جانب عمله البحثي كمبعوث للمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي في اليمن، يعمل منير عربش منذ 2004 مسؤولاً عن مشروع حماية مواقع "الجوف" الأثرية الذي تشرف عليه وتدعمه منظمة اليونسكو والصندوق اليمني الاجتماعي للتنمية. لكن المفاجئ أن عربش لا يستطيع زيارة هذه المواقع إلا نادراً وخلسة ً من دون تقديم نفسه للأهالي بصفته الرسمية هذه: "أزور الجوف بصفة شخصية لأن الأهالي يرفضون مجيء بعثات علمية يمنية أو أجنبية للعمل بشكل رسمي في المواقع"، يقول. ويضيف:" هناك مشكلة بين أهالي الجوف وأجهزة الدولة تجعلهم يرفضون أي تمثيل أو حضور رسمي لها في مناطقهم. وهذه المشكلة تصب في مصلحة عصابات التهريب". المشكلة التي يلمّح إليها عربش تتعلق بغياب التنمية. إذ، وتبعاً لغياب النفط وارتفاع نسبة حضور السلاح القبلي، ينحسر حضور "الدولة" ومعها أي اهتمام بمعاملة الجوف على قدم المساواة مع المحافظات الأخرى، حتى إن المحافظة لم تحصل على حصتها من الميزانية المالية للعام الحالي المشارف على الانتهاء.
آخر زيارة قام بها عربش لـلجوف كانت في آب الماضي، وكان برفقته ممثل منظمة اليونسكو في اليمن ريمي أودوان:" زرنا أحد المواقع والتخريب شغّال". والمفاجئ أيضاً أن هذه الزيارة، وعلى الرغم من أنها تمت بعد تنسيق رفيع واتفاق مع أهالي المنطقة والسلطات المحلية، لم تستغرق في الموقع أكثر من 10 أو 15 دقيقة: " قالوا لنا خلاص يكفيكم". وقد: "رأينا التخريب وعدنا الى صنعاء". ويطالب عربش الحكومة اليمنية بالتدخل العاجل "لإنقاذ ما تبقى ممكناً للإنقاذ من المواقع الأثرية في الجوف"، كما بتحويل هذه المحافظة إلى محمية وطنية أثرية لإدخالها لاحقاً في لائحة التراث العالمي لليونسكو.
يتفق علماء الآثار على أن وادي الجوف يحتضن أقدم المدن في شبه جزيرة العرب، بينها 6 مدن رئيسة بعضها كانت عواصم تاريخية في حضارات الألف الأول قبل الميلاد. وبين هذه المدن الست واحدة فقط لا تطالها عمليات التخريب والنهب، فيما تتعرض المدن الخمس المتبقية للتدمير المنظم والعشوائي، وفقاً لعربش العامل ضمن فريق المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية بصنعاء.
أوامر الرئيس لكن، مهلاً! فالمدن الأثرية في الجوف يمكن حمايتها. وللتأكيد على ذلك، أورد عربش عدة أمثلة أحدها من المحافظة نفسها": في موقع براقش الأثري، تعمل البعثة الإيطالية من دون مشاكل تحت حماية كتيبة عسكرية وعدد من أهالي الجوف". ويحدث الأمر نفسه في عدد من المناطق التاريخية الأخرى التي تنحسر عنها سلطة "الدولة". والمسألة ليست معقدة كما يرى الباحث البلجيكي: "نحتاج فقط لأن يعطي رئيس الجمهورية توجيهاته لوزارتي الدفاع والداخلية لحماية الآثار كما فعل مع موقع براقش الذي لم يتعرض لأي عبث منذ اعتنى الرئيس علي عبدالله صالح وتعاون الجيش مع الأهالي".
في ديسمبر 2003، كان عربش ضمن الفريق الإيطالي ـ الفرنسي الذي نزل مع مسؤولين في الهيئة اليمنية العامة للآثار الى مواقع الجوف وأعد تقريراً حول التخريب في تلك المواقع وسلمت الرسالة الى رئاسة الجمهورية وطالب الرئيس بوضع حد لعمليات التخريب. الرسالة وقع عليها رؤساء جميع البعثات الأثرية الأجنبية في اليمن مع رئيس هيئة الآثار اليمنية حينها. ويقول عربش إن الرئيس أمرعلى الفور بتسوير موقع "مَعِـيْن" الأثري وخُصص مبلغٌ لهذا، لكن التوجيهات الرئاسية لم تنفذ ولم يتم بناء أي سور حول الموقع "لأسباب لا نعرفها"، كما أعلن عربش.
في العام 2004، بعثت أكاديمية العلوم في باريس رسالة عبر الفاكسميل الى مكتب رئاسة الجمهورية في صنعاء. الرسالة اقترحت على الرئيس صالح إنشاء حفرية كبيرة في الجوف تحمل اسمه مقابل الحصول على إذنه لإنشاء الحفرية وتقديم الحماية لها، مجرد الإذن والحماية لا أكثر، أما التمويل فستتكفل به البعثات الأجنبية. ومثلما ظل سور موقع "مَعِيْن" الأثري حبراً على ورق، لم يحصل العرض السخي الذي قدمته الأكاديمية الفرنسية للرئيس صالح على جواب.